التغطية الإعلامية للجرائم – “شهيدة التوقيت” في “السبيل” نموذجا

السبت 14 كانون الأول 2013

من بين كل التغطيات الإعلامية لـ”جريمة طالبة آل البيت“، انفردت صحيفة “السبيل”، في موقعها الإلكتروني، ونسختها الورقية بنشر ثلاث معلومات.

الأولى منسوبة لـ”مصادر”، ومفادها أن الفتاة التي عُثر على جثتها فجر الثلاثاء 3/12، كانت في الحقيقة قد قُتلت الثامنة مساء الاثنين، أي “قبل اكتشاف الجثة بساعات”، والثانية هي أن الأمن استدل على القاتل، لأنه “كان آخر من اتصل على هاتف الفتاة المقتولة”. وقد ورد ذلك في تقرير نشره الموقع يوم 4/12، وأعادت نشره النسخة الورقية، يوم 5/12.

المعلومة الثالثة، هي تصريح منسوب لزميلة المغدورة في الجامعة، قالت فيه إن الضحية “كانت مختفية منذ مساء الأحد”، وورد هذا في تقرير نشره الموقع يوم 4/12، ولم تُعد الورقية نشره.

تناقلت المواقع الإخبارية هذين التقريرين على نطاق واسع، لهذا كان غريبا هذا الضخ الإعلامي الذي اجتاح الصحف والمواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، وربط الجريمة بـ”توقيت النسور“، الذي قيل إنه اضطر الفتاة إلى الخروج فجرا للحاق بمحاضرتها. ساهم في ذلك نواب خرجوا اليوم التالي للجريمة، وحمّلوا رئيس الوزراء، عبد الله النسور، صراحة مسؤولية الجريمة.

وكان غريبا أن هذا الربط لم يستدع، منذ البداية للنقاش، المعلومات التي أوردتها “السبيل”، بل دُفنت هذه المعلومات سريعا، وسط ركام تغطيات اكتفت بذكر وقت العثور على الجثة، وأخرى حددت وقت العثور عليها بوصفه وقت الوفاة، ولكن من دون نسبة ذلك إلى أي مصدر مختص.

 

لم تشر “السبيل”، ادنى إشارة، إلى ما سبق أن قدمته في تغطياتها الأولى من معلومات لقراء، يفترض أن لهم أكثر من ذاكرة سمكة. 

“السبيل” نفسها، انقلبت على تغطياتها الأولى، ونشرت يوم 8/12 على موقعها الإلكتروني تقريرا، نقلت فيه عن ذوي الفتاة تأكيدهم أنها قتلت فجر الثلاثاء “وليس مساء الاثنين كما أشارت بعض وسائل الإعلام“. واللافت هنا أن الصحيفة حذفت العبارة السابقة من التقرير، عندما نشرته في النسخة الورقية، اليوم ذاته.

كما أنها قدمت، في التقرير السابق، رواية مختلفة بخصوص الهاتف، وهي أن القاتل بعد ارتكابه الجريمة، اتصل بصديقه من هاتفها، ثم ألقى الهاتف، ونسبت هذه الرواية إلى من عرّفه التقرير أنه “الداعية” عبد الله الشواهنة.

وفي غمرة هذا كله، لم تشر “السبيل”، ادنى إشارة، إلى ما سبق أن قدمته في تغطياتها الأولى من معلومات لقراء، يفترض أن لهم أكثر من ذاكرة سمكة.

عندما يكون الإعلام طرفا في الحدث، لا ناقلا له

لماذا كل هذا الجدل حول توقيت الجريمة؟

ببساطة لأن الجريمة لو حدثت مساء الاثنين، فإن هذا قرار اتهام للفتاة، لكنها فجر الثلاثاء صك براءة، وهذا بالضبط، هو المفتاح لفهم ما يبدو ظاهريا في المثال السابق أنه تخبط إعلامي في االتعاطي مع هذه الحادثة، لكنه، في الحقيقة، نموذج للكيفية التي يجعل الإعلام فيها من ذاته طرفا في الحدث، لا ناقلا محايدا له.

لقد كان الإعلام طرفا في هذه القضية، عندما أزاح إلى خلفية المشهد معلومات، سمحت له إزاحتها أن يقوم بمهمته في هذه الحادثة، وهي “مساندة” الأسرة المكلومة، لا نقل الحقيقة عن مصابها، وكان لافتا، من البداية، هذه اللغة “الدفاعية” التي تشاركها هذا الضخ الإعلامي، وركزت على “حسن خلق” الفتاة، و”سيرتها العطرة”. وهذا التقرير مجرد نموذج  لإعلام انشغل في تقاريره ومقالاته وتعليقات قرائه بالتأكيد على حسن سلوك الضحية، قدر انشغاله بإدانة القاتل.

في ثقافتنا، وبالتحديد في أنواع معينة من الجرائم، مثل الاعتداءات الجنسية، والجرائم العاطفية، فإن الضحايا وعائلاتهم يتشاركون العار مع الجناة.

وهو أمر مفهوم، ففي ثقافتنا، وبالتحديد في أنواع معينة من الجرائم، مثل الاعتداءات الجنسية، والجرائم العاطفية، فإن الضحايا وعائلاتهم يتشاركون العار مع الجناة.

وأتذكر أنه قبل ست سنوات، وفي واحدة من الجرائم العائلية البشعة (الكثيرة) التي هزت المجتمع الأردني، كانت الشابة التي ارتكبت الجريمة أخت واحدة من طالباتي في الصف الثامن.

بعد عشرة أيام من الحادثة، جاءت الفتاة بصحبة عمها وخالها،  لنقل أوراقها إلى مدرسة أخرى. دخل الاثنان إلى الإدارة، في حين وقفت الفتاة خارجا، تستند شبه منهارة إلى ذراع صديقتها، وتؤكد للمتحلقات حولها أن اختها بريئة وأن ما حدث كان سهوا. وعندما غادرت، قيل لنا أن عمها وخالها، كانا في الداخل يؤكدان الشيء ذاته.

ولكن، كان في المحيط جيران، ومعارف، ومعلمات يعمل أزواجهن وأقاربهن في الجهات القريبة من الحدث، وكان هؤلاء طيلة شهر أو أكثر، مصادر ثرية للمعلومات، أمكن بعد غربلتها، ومطابقة المشترك في الروايات المتعددة، أمكن تركيب قصة بدت هي التفسير المنطقي لما حدث (لا مجال هنا لتفاصيل تنكأ الجراح).

لكن الإصرار على البراءة هنا، كان محاولة لتجنّب حكم الإعدام الاجتماعي. وفي الحالات التي يتعذر فيها الدفع بالبراءة، سيكون هناك التكتم، وسوف يُستخدم الثقل المجتمعي لحماية هذا التكتم، وهكذا، فقد أمكننا نحن القريبين من أطراف الحادثة السابقة معرفة الحقيقة، أو ما يُرجّح أنه الحقيقة، بفضل صدفة القرب الشخصي، ولكن من دون مساعدة مَنْ يُفترض به أن يقدم الحقيقة، وهو الإعلام.

وهذا ما يحدث فعليا الآن بشكل عام، فالجرائم تحدث كل يوم، لكن القريبين من الواقعة فقط هم من يعرفون فعلا ما حدث، والإعلام الذي ينقل خبر الواقعة، في اليوم الأول، يغيب عنها تماما بعد ذلك، أو يفعل ما هو أسوأ، يقدم معلومات مضللة.

السؤال، هل جريمة القتل شأن عائلي خاص، تملك عائلة ما حق حجبه عن العامة، أو تغيير وقائعه المعلنة؟

هل جريمة القتل شأن عائلي خاص، تملك عائلة ما حق حجبه عن العامة، أو تغيير وقائعه المعلنة؟

الإجابة هي لا. الجرائم بأنواعها هي قضايا مجتمعية، وفي ظل هذا الارتفاع في عددها، وهذا التغير في نوعيتها، فإنها تصبح قضايا مجتمعية ملحة، لا يملك أحد حق حجب المعلومات عنها، لأن كشف هذه المعلومات، وفحصها وتحليلها، هو ما يجعل الناس يفهمون ما طرأ على مجتمعهم من تغييرات. إنه ما يؤدي إلى تشكيل وعيهم بواقعهم، ويمنحهم القدرة على التعامل معه.

وإلا، ومع كل جرائم القتل المبهمة التي يُختزل دافعها في البيانات الرسمية بكليشيه “خلافات شخصيةبين الطرفين، ما الذي سيضمن لأي كان أنه لن يكون الضحية القادمة.

العقدة هنا، كيف يمكن للإعلام أن يحقق المعادلة الصعبة؟ كيف له أن يبدأ بكشف الحقائق في هذا النوع من القضايا، لكن من دون أن يضع تحت الأرجل ضحايا جددا، هم عائلات الجناة وضحاياهم؟

إنه سؤال مفتوح.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية