الإصلاح في الأردنّ حراك النّخبة

الأربعاء 08 حزيران 2011

د.ساندي سالم أبو سيف

تصوير روان دعاس - ٢٥ فبراير ٢٠١١

في الثّورات العربيّة، سواء تلك التي أنجزت مشروعها أو التي لا تزال تهجس به، كانت منطلقات التّغيير تبدأ من الأسفل إلى الأعلى  من الشّعب لتصل إلى النّخب. لم يمرّ التّغيير عبر “النّخبة” أو المثقفين أو الإعلاميين أو الصّحفيين. لقد تجاوز هؤلاء كلهم بل وفاجأهم  ليؤسس وعياً جديداً أو ليعيد الوعي بقوّة الجماهير وقدرتها على خلق مشروعها النّهضويّ. وهذا تاريخيّاً يبدو أقرب إلى ما يمكن تسميته بالتّغيير “الطّبيعيّ” الذي ينطلق من القاعدة إلى القمة  وينسحب على الطّبقات كلها مؤسساً بذلك تغييراً شموليّاً عامّاً يستطيع من خلاله أن يشكّل بالفعل مرحلة فارقة ومهمة من تاريخ الشّعوب. إلاّ أنّه من اللافت أنّ الحال في الأردنّ تختلف تماماً عن غيرها، وليس في هذا انتقاداً وإنّما مفارقة، فقوى التّغيير لم تصل إلى الدّرجة التي يمكن فيها القول إنّ الشّعب متفق على قيادة التّحوّل أو على إنجاز مشروعه التّغييريّ، فجاءت مشروعات الإصلاح  التي تبنتها الحكومة  تحت وطأة حراك النّخبة أو القلة من فئات الشّعب واستجابة لا بديل عنها للتغييرات الكبرى التي عصفت بالمنطقة  أقرب إلى أن تكون “مصنوعة” وغير صادرة عن إرادة حقيقيّة، إذ تأتي في سياق “تسليك الحال” وليس تغيير الحال، وهذا هو الفارق الحسّاس الذي يضع كلّ مشروعات الإصلاح في الأردنّ قيد التّعطّل والتّأخير والمماطلة والتّسويف وأقرب إلى “التّزييف” منها إلى الحقيقة،  ويبدو السّؤال هنا مشروعاً ومهماً في الوقت نفسه ما الذي يغيّب الشّعب عن قيادة تغييره؟ وكيف يمكن وسم الحراك في الأردنّ بأنّه حراك نخبوي وليس شعبيّ؟

المتتبع لموجة الاحتجاجات العامّة التي وقعت في الأردنّ في الفترات الأخيرة سيلاحظ بدون شكّ أنّها لم تكن تستند إلى دعم شعبيّ يمكن فيه القول بإنّها حركات “شعبيّة” بل كانت أشبه بتحرّكات خجولة  لبضع مئات أو آلاف يخرجون  في أغلبهم لدوافع حزبيّة بينما القلّة منهم تندفع بإرادة ذاتيّة، وهذا ينسحب على مسيرات يوم الجمعة التي بدأت بقرار حزبيّ وأوقفت بقرار حزبيّ أيضاً؛  فكان “الحزب” أو “الأيديولوجيا” هي التي تحرّك ولم تكن “الإرادة الشّعبيّة” هي المحفّزة أو الدّافعة،  وعندما أقول “إرادة شعبيّة” أعني بذلك اتّفاق أغلبية  الشّعب أو معظمه على التحرّك الذّاتي المستمر والمتواصل والثّابت وليس المتأرجح والمتردّد والخجول، وهذا ينطبق على جماعة 24 آذار  على سبيل المثال، وعلى العديد من  التّحركات الأخرى والاعتصامات كتلك التي  تنادي مثلاً بالملكيّة الدّستوريّة وغيرها. لم يكن حراك التّغيير في الأردنّ حراك الشّعب بل كان حراك النّخبة، النّخبة من المثقفين ومن الحزبيين ومن الإعلاميين، ولم تكن الجماهير هي الصّانعة  لمثل هذه الأحداث، بل ظلّ الشّعب يقف على ضفة والنّخبة التي تطالب بالإصلاح والتّغيير تقف على ضفة مقابلة. بكلمات أخرى  لم يشعر الشّعب بمجموعه بأهميّة التّغيير أو بوطأة الحاجة إلى الإصلاح العامّ، وهذا يمكن أن يردّ إلى عدّة عوامل سأركّز تالياً على ما أراه الأكثر إلحاحاً من وجهة نظري.

لقد استطاع النّظام في الأردنّ أن يحافظ على شكل من أشكال الاستقرار في العلاقة بين مؤسسة الحكم وبين الشّعب، حيث لم تسجّل حركات احتجاجيّة واسعة أو ذات تأثير واسع  يمكن أن توسم بالانتفاضة الشّعبيّة أو بالعصيان، وذلك يعود إلى عدّة أسباب أرى أنّ أهمها يردّ إلى  ما يمكن أن أطلق عليه “إشكاليّة الهويّة الأردنيّة”؛ فالهويّة الأردنيّة  تعاني من الانقسام والضّبابيّة، فهناك شعبان يتجاذبان هويّة واحدة وقد أخفقا على امتداد عقود مضت في تحقيق انسجام يؤمّن تعريفاً واضحاً للهويّة الأردنيّة، ومردّ هذا  عاملين أولهما على مستوى الشّعب وثانيهما على مستوى النّظام؛ فالمجتمع نفسه، و إن كان قد نجح ظاهريّاً  في تجاوز  التّداعيات الخطيرة لحادثة “أيلول الأسود” الفارقة في التّاريخ الأردنيّ  إلاّ أنّ شرارة ما كفيلة بإيقاع الجميع في فخّ العنصريّة والتّعصّب وتراشق الاتّهامات، ومفاهيم من قبيل التّسامح وقبول الآخر غائبة في ظلّ التّشديد والإلحاح المستمرين على وجهة الأصل من غربيّ النّهر أو من شرقيّه،  إلاّ أنّه لا يمكن في هذا السّياق اعفاء النّظام من مسؤولياته  فقد ساهم النّظام نفسه في تعزيز مثل هذا الشّرخ إذ ظلّ يراهن على ما يمكن تسميّته بـ “الهويّة المهدّدة” بغية  تحقيق استقراره داخل المجتمع، إذ بقيت  الفئة الأولى قلقة  من مشروعات “الوطن البديل”،  بينما ظلّت الفئة الثّانية متخوّفة  من “العنصر الخارجيّ”  الذي يشاركها الأرض والوطن؛ فانكفأت الفئتان: الأولى ترى بأنّها في مرحلة مؤقتة لحين “العودة” ، بينما الثّانية تجد بأنّ أمنها واستقرارها بل كيانها سيظلّ رهناً بالولاء للنّظام، هذا التّخوّف والقلق من قبل الفئتين هو الذي خلق ما يمكن تسميته بالتّعايش المترقـِب، المشروط، وليس ذلك المنسجم المتآلف.

وغير خافٍ أنّ هذا الشّكل من أشكال التّعايش  لا يمكن التّعويل عليه كثيراً في قيادة حراك شعبيّ، إذ لا يمكن أن تطالب مجتمع ما يعاني من شروخ جديّة في هويّته، ومن لا إنسجام بين فئاته بالتحرّك في أي اتّجاه، طالما ظلّت الهويّة مهدّدة أو مستثارة من قبل أي عامل من العوامل فإنّه لا يمكن الدّفع باتّجاه التّواطؤ الجمعي أو الرّهان على حراك عامّ  جامع – ولا أقول كليّ –  يؤمّن على الأقل تأثيراً واضحاً في صنّاع القرار أو  يجبر النّظام على تغيير سياساته.

بالإضافة إلى ما سبق فإنّه من الممكن  ملاحظة  أنّ السياسة العامة التي قادها النّظام في الأردنّ ولا سيما في الفترات الأخيرة قد ساهمت في تحييد المزاج الشّعبي عن موجات الاحتجاجات أو الثورات التي عصفت بالمنطقة وهذا مما يسجّل للنّظام الأردنيّ أي أنّه قد  أشاع ما يمكن أن أسميّه بـ “سياسة التّنفيس”، وقد جاء ذلك على مستويين أساسيين أولهما هو محاولة النّظام سحب أي ثقل ممكن للاحتجاجات العامّة ودفعه نحو المطالب الفئويّة أو الإعتصامات المطلبيّة المحدّدة، أي تفتيت الاحتجاج ونقله من العامّ إلى الخاصّ، من الكليّ إلى الجزئيّ، فجاءت الاعتصامات الفئويّة عنواناً للمرحلة في الأردنّ والتي غالباً ما كانت تنتهي بالاستجابة الكاملة للمطالب المرفوعة، وبهذا يكون النّظام قد ضمن بعثرة أي جهود ممكنة يمكن أن تشكّل ثقلا ً ضاغطاً فيما لو اتّحدت تحت سقف واحد، وفي المقابل رضيت كلّ فئة من الفئات بتلبية مطالبها دون استشعار الحاجة بضرورة تغيير سياسات عامّة  بدلاً من القبول بتمرير مطالب وقتيّة أو مرحليّة كرفع الأجور أو الرّواتب مثلاً.

وثانيهما،  فإنّ المتتبع للفضاء الافتراضيّ من مواقع التّواصل الاجتماعيّ أو المدوّنات أو المواقع الإخباريّة الأردنيّة  يلاحظ  بأنّ هناك مناخاً  لا بأس به من الحريّات حيث يمكن لأي كان أن ينتقد نهج الحكومة بل أنّ يتطاول على وزراء أو رؤساء وزراء أو أن ينظّم تجمّعات مناهضة للحكومة، نعم يمكن ملاحظة بعض الحوادث أو المساءلات هنا وهناك أو منع بعض المقالات من الصّحف الرّسميّة  لكنها سرعان ما تنتهي أو تجد طريقها للنشر عبر عشرات المواقع الإلكترونيّة الأخرى، الأمر الذي وفّر ما يمكن أن أسميّه بأجواء حريّة مصطنعة أو “الوهم بالحريّة”، حيث أنّ العديد من  فئات الشّعب قد وجدت  طريقها عبر الإنترنت واستطاعت أن تجد “متنفسّاً” للانتقاد ولصبّ جامّ غضبها على هذا المسؤول أو ذاك، ولكن دون أن يلقى هذا النّقد استجابة جديّة من قبل الحكومة، أو دون أن يشكّل هذا النّقد قوى ضاغطة تدفع باتّجاه التّأثير على الحكومة.

بكلمات أخرى فإنّ النّظام قد رفع سقف “التّنفيس” عن أي غضب أو احتجاج أو الرّغبة في تسيير معاملات خدماتيّة  إلى أعلى مستوياته وذلك لامتصاص الاحتقان الشّعبيّ والحيلولة دون تحوّله إلى حركات احتجاج شعبيّة عامّة وهذا ما يشكّل مفارقة كبرى بين سياسة النّظام الأردنيّ وسياسة  كلّ ما يحيط به من بلدان مجاورة، حيث نجح النّظام في الأردن في تحويل مسار أي غضب ممكن من الشّارع إلى الإنترنت وأوقفه عند هذا المستوى، فليس ثمة تناسب بين موجات النّقد العارمة في الفضاء الالكترونيّ على الحكومة الأردنيّة وبين ما تقوم به الحكومة من  خطوات باتّجاه تنفيذ إصلاحات حقيقيّة أو الإجابة عن التّساؤلات المعلّقة حول قضايا الفساد وملاحقة الفاسدين و تعديل القوانين والسياسات، فالشّعب ينفّس والحكومة تتفرّج.

بالإضافة إلى كلّ ما سبق فإنّه وإن كان ممكناً وسم الحراك في الأردنّ بالنّخبويّ، فإنّه لا يمكن التّغاضي في الوقت نفسه عن ما يطال بعض فئات “النّخبة” من إشكاليّات ساهمت هي الأخرى في عرقلة الإصلاح في الأردنّ، فالنّخبة من حركات المعارضة أخفقت في جعل “الوطن” مرجعيتها الأولى وأخذت تحتكم إلى إملاءات لعبة عضّ الأصابع مع الحكومة فكان حراكها على مستوى الشّارع رهناً بردود فعل الحكومة،  وسرعان ما انفرط عقد التّوافق فيما بينها حين طفت على السّطح الخلافات حول قيادة الشّارع، وشكل المطالب، والتّنازع حول من يمتلك الثّقل الشّعبيّ ومن لا يمتلكه، ومؤخّراً موقف  البعض منها غير المشرّف من الثّورة السّوريّة، وتبجحّها في دعم نظام الأسد مما أفقدها مصداقية مواقفها من الإصلاح في الأردنّ.

وتأسيساً على ما سبق فإنّ غياب الثقل الشّعبيّ لا يجب أن يردع النّخبة المستقلّة من القيادات الفكريّة والإعلاميّة وتلك الشّبابيّة عن مواصلة الإصرار على موافقها في الدّفع الحثيث باتّجاه الإصلاح لا سيما وأنّها، أي هذه النّخب، تقع تحت وطأتين: نظام نجح في تحييد الشّعب، وحركات معارضة غير جادّة، وعليه فإنّ حراك النّخبة المستقلّة في الأردنّ بغية تحقيق مطالبها لا يمكن أن يكون بالأمر الهيّن، ومن الواضح أنّه ليس كذلك، ومن الواضح أيضاً أنّ الطّريق أمامها سيكون شائكاً وصعباً.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية