النهوض والفوضى

الثلاثاء 06 كانون الأول 2011

لوحة للفنان باسل عريقات | Basel Uraiqat, Oil on Wood

بقلم بسمة عبدالله

في ظل الربيع العربي وتغير السلطات والنقاشات المتعددة عن مصير هذه الثورات، يتكرر السؤال فيما إذا كانت البدائل المطروحة أفضل من الحكومات السابقة وفيما إذا كان الشباب العربي صاحب هذه الثورات قادر على حمل المسؤولية وخاصة أن هذا الجيل كثيراً ما يوصف بالفوضوية والعفوية وقلة التخطيط وحتى أحياناً بالتهور. مما جعلني أفكر وأبحث في مفهوم الطغيان والثورة والتغيرات التي تنتج عنها.

تظهر السلطة المستبدة وتتشكل وتسيطر على المجتمعات من خلال زرع معتقدات وسلوكيات خلال فترة من الزمن تؤدي إلى إضعاف الشعب وجعله فريسة سهلة لأي طاغية سواء كان دولة أم سلطة مجتمع أم أفراداً مستبدين، وتؤدي إلى ازدياد قوة السلطة شيئاً فشيئاً. لكن لا يمكن أن تصل هذه السلطة إلى القوة المطلقة إلا بغياب من يقف في وجهها ومن يملأ الفراغ الذي تحتله.

ففي كثير من الأحيان تسمح الشعوب لنفسها أن تظلم وتستعبد وتتمسك بالطاغية دون أن تدرك المسار التي يأخذها إليه. فما الذي يجعل الناس تخضع لقوى ظالمة تستغلها وتجعلها تعيش في ظروف تعيسة؟ وما الذي يضعف النفوس بحيث تقع فريسة سهلة؟ يجيب على ذلك أتيين دي بوتيي Etienne De La Boetie وهو كاتب وقاض فرنسي من القرن السادس عشر. فيقول أن هنالك خمسة أشياء أساسية تجعل الناس تخضع للظلم: أولاً العادة، فبمرور أجيال تحت الظلم يصبح لدى الناس الاعتقاد بأن هذا هو الوضع الطبيعي ولا يدركون وجود بدائل؛ ثانياُ، تعمل القوى الطاغية على إظهار نفسها بصورة الخير وأن ما تفعله هو لمصلحة الناس مثلما يفعل بعض الحكام أو أصحاب العمل أو حتى بعض الآباء. ثالثاً، ربط السلطة بالقوة الإلهية كما كان يحصل في العصور الوسطى من اعتقاد الناس أن الملوك والكهنة لهم علاقة مباشرة بالآلهة وبالتالي يستغل الطغاة إيمان الناس بالروحانيات. رابعاً، توفير بعض الأشياء الترفيهية وأماكن التسلية لإلهاء الناس عن التفكير بأمور حياتها مثل حلبات المصارعة أو النوادي أو القمار. رابعاً، ينشيء الطاغية حوله شبكة من المستفيدين ويشتري ولائهم من خلال الممتلكات والنقود بحيث يوفرون له الحماية ويقومون بتوجيه الشعب حسب رغبة الحاكم.

ومع مرور الوقت يزداد الطاغية بطشاَ والشعوب خضوعاً إلى أن يأتي يوم تدرك فيه هذه الشعوب أنه لم يعد لديها شيء تخاف عليه بعد أن خسرت كل شيء، وتصبح كارهة للحياة وترى الموت كصديق تبدأ بالحنين والغناء إليه، وبذلك تتحرر من خوفها من الموت وهو الأداة الرئيسية التي يعتمد عليها أي طاغية للسيطرة. وهنا ينهض الأفراد ويتخذوا قراراً بأن يكونوا أحراراً، عندها يفقد الطاغية كيانه كسيد ومن ثم يمكن محاربته كعدو وند وذلك بعد أن سقطت عنه هالة السلطة. فيتمرد الأفراد وتبدأ الثورة.

وهنا يمكن التحدث عن مفهوم القيام ضد السلطة والاستعانة بتفسير ماكس ستيرنر(Max Stirner) عن الثورة والتمرد. ستيرنر هو مفكر ألماني من القرن التاسع عشر عرف بنظرياته في التعليم والفلسفة التي تقوم على مبدأ اللاسلطوية الفردية (individualist anarchism) والأنانية (egoism) والتي مع أن تسميتها تحمل معاني سلبية مما نعرفه من المفهوم العام للأنانية والفردية إلا أنها نظريات تستحق الدراسة والتمعن لما تحتويه من مبادئ ومفاهيم إيجابية تجاه بناء الأفراد وإصلاح المجتمع من الداخل دون الحاجة إلى السلطة الخارجية لفرض الأخلاق والقوانين.

يقول ستيرنر في كتابه (The Ego and His Own) أن مفهوم الثورة والتمرد هما مفمومان مختلفان تماما ولا يجوز الخلط بينهما. فالثورة هي القيام ضد الأوضاع السائدة في الدولة أو المجتمع فبالتالي هي عمل اجتماعي أو سياسي منظم. أما التمرد فهو لا ينبع من الرغبة في تغيير الظروف السائدة، بل من عدم رضا الناس عن أنفسهم فهو بالتالي تمرد داخلي من الناس ضد خضوعهم قبل أن يكون ضد أي قوى خارجية، وقد ينتج عنه تغيير خارجي لكن دون أن يكون هو الهدف الأساسي. فالثورة تبحث عن أنظمة بديلة، لكن التمرد يبحث عن التخلص من الحاجة لوجود الأنظمة ويسعى إلى إيجاد طريقة للناس ليقوموا بتنظيم أنفسهم بنفسهم ولا يعلق أية آمال على المؤسسات والحكومات. فبالتالي التمرد الداخلي يؤدي بالأفراد إلى إيجاد أنفسهم وتقوية ذاتهم بحيث تسقط الأنظمة المستبدة تلقائياُ لعدم وجود ضحايا تستبد بهم ولعدم وجود فراغات في نفوس الناس لتملأها بالخوف.

ما يثيره ستيرنر هو أن مفهوم الثورة هو مفهوم خارجي تجاه السلطة، بينما التمرد الداخلي هو موقف من الفرد تجاه نفسه، بحيث يقوم ضد المفاهيم التي تقف أمام تقدمه ويصبح جاهزاً لإعادة التفكير في حياته وظروفه ومعتقداته حتى إذا أدى ذلك إلى تحطيمها فلا يخاف من احتمالية الفوضى. وذلك لأنه لا ينظر إلى مفهوم الفوضى بالطريقة التقليدية السلبية بأنها تؤدي بالضرورة إلى الدمار والخراب وحتى الموت، بل ينظر إليها كقوة داخلية وقدرة على التغيير يمتلكها الإنسان ويستطيع استعمالها لإحداث التغيير الإيجابي. ولا يخاف على المفاهيم التي يريد التمسك بها من أن تضيع في الفوضى لأنها إما أن تثبت قوتها وصلاحيتها وتنجو كونها تخدم صالح الفرد، أو أن تستبدل بما هو أفضل منها لكن لم يكن لدى الفرد القدرة على رؤيته تحت الظروف القديمة.

فالفوضى بالمعنى الإيجابي هي التغيير، إعادة التفكير والتقييم، حركة، تفاعلات، استبدالات، تدفقات، وعفويات تؤدي إلى تشكيلات جديدة لا يمكن أن تتكون ضمن التكوينات السابقة. فلكي يستطيع الفنان انتاج أعمال جديدة ومبدعة وفيها نظرة مختلفة إلى العالم لا بد أن تكون لديه القدرة على تحطيم المفاهيم والمناظير السابقة وإحداث الفوضى فيها لكي يستطيع استخلاص أعمال جديدة لا يمكن رؤيتها ضمن التراكيب السابقة. ولكي يستطيع الشباب تشكيل أنماط جديدة وفعالة من المعتقدات والسلوكيات والكيانات المستقلة لا بد لها من الخروج من الأنماط السابقة وإحداث بعض الفوضى الإيجابية لكي تتحرر من عبودية الماضي وتجد نفسها.

فكما نرى أن الطاغية سواء كان شخص واحد كالحاكم أو كان المجتمع أو كانت حتى بعض المعتقدات والمفاهيم التي صنعها الإنسان ووقع ضحيتها تكتسب القوة من خضوع الأفراد. فلا يمكن وجود قوة طاغية بوجود أفراد مستقلين قادرين على إحداث التمرد الداخلي. وعندما نتحدث عن التمرد هنا لا نتحدث عن الخروج إلى المدينة وإغلاق الشوارع وحرق الممتلكات وإحداث الفوضى لإثبات وجهات النظر، فذلك ليس سوى استبداد وطغيان من الأفراد ضد شعوبها ومدينتها ودولتها ولا يؤدي إلا إلى الدمار والخراب وإحداث سلسلة من العنف والانتقامات. إنما يقصد بالتمرد القدرة على رفض المفاهيم الظالمة والقدرة على تغيير التصرفات والمعتقدات الداخلية إلى ما يحقق صالح الفرد والمجتمع. وبذلك تسقط المفاهيم البالية والقوى الاستبدادية تلقائياً لعدم وجود ما يبرر وجودها من نفوس خائفة وتبدأ رحلة الأفراد تجاه بناء أنفسهم من الداخل قبل أن يستطيعوا إعادة بناء نظامهم ككل.

 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية