عمر المعاني بين الإدارة والقضاء

السبت 17 كانون الأول 2011

بقلم م. مروان زريقات

عادت بي الذاكرة، في خضم هذا الضجيج حول الفساد، إلى حادثتين منفصلتين: الأولى في العام ١٩٨١-١٩٨٢ عندما طرحت وزارة الأشغال العامة عطاءات لدراسة ثلاثة طرق رئيسية في المملكة. وبعد أن استلمت الوزارة العروض، استدعى وزير الأشغال العامة آنذاك المهندس عوني المصري مدراء الشركات الثلاثة التي تقدّمت بأفضل العروض المالية. وكنت ممثلاً لإحدى هذه الشركات. وأسمعنا الوزير كلاماً قاسياً مفاده أن الأسعار التي تقدّمنا بها لا يمكن أن تضمن له قيامنا بتقديم خدمات استشارية في المستوى الذي يتوقعه، وقدم لنا تحليلاً جعلنا جميعاً نقف عاجزين عن تبرير الأسعار التي تقدمنا بها. وقام الوزير بعد ذلك باستصدار قرار من مجلس الوزراء بإلغاء العطاءات الثلاث ثم استصدر قراراً آخر بتلزيمنا نحن الشركات الثلاثة تلك الدراسات بأسعار تزيد عن الأسعار التي تقدمنا بها.

والحادثة الثانية كانت في العام ١٩٨٩ عندما قامت لجنة من كبار المهندسين في وزارة الأشغال العامة بتقديم تقرير إلى الوزير آنذاك المهندس شفيق زوايدة حول مطالبة مالية تقدّم بها أحد المقاولين، وبعد أن اطلع الوزير على التقرير، كتب على حاشية الصفحة الأخيرة النص التالي: “أشكر اللجنة على جهودها ولا أوافق على توصياتها، وأقرر ما يلي: …”. وكان قرار الوزير مخالفاً تماماً لما توصّلت إليه اللجنة.

في المقاييس السائدة هذه الأيام فإنّ كلا المسؤولين السابقين قد ارتكب فعلاً يستوجب مساءلته أمام هيئة مكافحة الفساد (والتي لم تكن موجودةً في ذلك الحين). أما في مقاييس العمل الإداري فإنّهما قد تحمّلا مسؤولية الموقع الذي يحتلونه واتخذوا قراراتهم بناءً على قناعاتهم، وكانت في الحالتين قرارات إدارية صحيحة بامتياز.

يُحاسب عمر المعاني هذه الأيام أمام القضاء على قرار أو قرارات اتخذت من قبله قبل سنوات عديدة. ومن وجهة نظري، ولكي تكتمل مسيرة البحث عن الحقيقة واستخلاص العبر التي تضمن تحقيق الفائدة القصوى من هذه التجربة، فإنني أرى أنه من الضروري أن يكون هناك تحقيق إداري بموازاة التحقيق القضائي يهدف إلى:

أولاً: فحص آليات المراقبة والتدقيق العاملة حالياً في الإدارة الحكومية وإقرار ما يلزم لتطوير هذه الآليات والأدوات بشكل يؤدي إلى منع التجاوزات أو، في أسوأ الأحوال، اكتشافها والتعامل معها في وقت مبكر.

ثانياً: إعادة فحص الأسس وأدوات القياس المعتمدة والتي يتم بناءً عليها اختيار المسؤولين في المواقع الإدارية وتقييم عملهم.

ثالثاً: التحقيق في طبيعة الرسائل وماهية الاستنتاجات التي يتوصل إليها المسؤولون العاملون في الدولة وهم يتابعون أخبار التحقيق القضائي في هذه القضية. إنّ مثل هذا التحقيق ضروري لضمان أن لا يتوصل هؤلاء المسؤولون إلى استنتاجات خاطئة تؤدي إلى إحباط العديد منهم و/أو استنكافهم عن اتخاذ قرارات في أمور تقع ضمن مسؤولياتهم خوفاً من الملاحقة القضائية.

صحيح ما يقال حول وجوب أن يتحمل صاحب القرار مسؤوليته. ويبقى أن نتأكد أن صاحب القرار لديه من المؤهلات ما يمكنه من اتخاذ القرار الصحيح ولديه من الحصانة ما يضمن توفير الحماية له عندما يجتهد في اتخاذ قرار أو قرارات يتبيّن لاحقاً أنها جانبت الصواب. إنّ ما هو أسوأ من المدير الذي يتخذ قراراً يخلّ بواجباته الوظيفية هو المدير الذي يستنكف عن اتخاذ قرار يقع ضمن واجباته الوظيفية أو يجيّره للآخرين ليأخذوه نيابة عنه.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية