سلعة اسمها الخوف

الخميس 08 آذار 2012

بقلم يوسف عبدالله

يعلن الإنسان عن وصوله إلى هذه الدنيا بالصراخ والعويل، وقلما نجد هذه الظاهرة في أي من المخلوقات الأخرى التي تولد في العادة بصمت واستكانة. وتختلف التفاسير العلمية لهذه الظاهرة، فالبعض يربط أسبابها بمشاق الولادة نفسها، فيقال أن في الولادة شقاء وأن ألم المولود يوازي ألم أمه التي تلده، والبعض يفسر هذه الظاهرة بنهم المولود إلى التنفس الذي يحرم منه أثناء الولادة. ولكن من الواضح أن مولود الإنسان يلجأ إلى البكاء والعويل لدى ولادته لأنها أسلوبه الوحيد في هذه المرحلة للدلو بخلائج نفسه كائنة ما كانت، فما أن يحصل على حريته من أسر الرحم المظلم حتى يعلن احتجاجاته الغاضبة على ما آل إليه الحال من حاله، ولا يلومه في ذلك لائم أن يعبر عن نفسه، إذ أن هذه غريزته، فحرية التعبير عن النفس ليس حقاً وحسب بل هي غريزة من غرائز الإنسان وأول علامة على مروره سالماً عبر نفق التكوين إلى حيز الإدراك، فلماذا نقمعها؟

قال تعالى: “إن الإنسان خلق هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً”. لعل في هذه الآيات خير شرح لطبيعه الإنسان التي تكاد تسيطر عليها هواجسه وخوفه مما لا يعلم وتمسّكه الهوسي بما يصوره له عقله من إحساس بالأمان. لن نحتاج الى الخوض عميقاً في التركيب النفسي للإنسان والمجتمع لنجد أنفسنا وجهاً لوجه مع الدوافع الرئيسية وراء رغبته بقمع حرية التعبير ورفض الرأي الأخر بشتى الطرق التي تصل في الكثير من الأحيان إلى العنف والدموية.

لعل من أهم الدلائل على كون القدرة على التعبير بحرية هي الحالة الطبيعية للإنسان ما ينجلي في أيامنا هذه من مخاضات انتفاضة الربيع العربي في مختلف الدول العربية، ففك أسر حرية التعبير في مختلف الدول، سواءً تلك التي شهدت تغيرات جذرية في نظامها الحاكم كتونس ومصر أو التي اكتفت بتغيرات مرحلية أقل دراماتيكية كالأردن، كان من أوائل نتائج هذه التحركات. والجدير بالملاحظة أنه ورغم أهمية هذه الظاهرة إلا أنها سرعان ما غدت أمراً بديهياً وحقاً مكتسباً كأنما كان موجوداً منذ الأزل رغم أنها وقبل أشهر معدودات كانت تعتبر حلماً بعيد المنال.

لقد كسر حاجز الخوف، وصار الناس يتصرفون كأنهم لم يمضوا عقوداً مضت مقيدين ببراثن أغلاله، ولكنه ما أن كُسِر حتى بدأت حركة دؤوبة وممنهجة بإعادة بنائه، فمنابر الحرية تشيّد بيسر لدى انتفاض الشعوب رغبة بتصحيح مساراتهم، ولكن التحدي الأعظم هو الحفاظ عليها قائمة في ظل تقهقر البناء الفكري القويم الذي يشكل السد الأمنع في وجه الخوف والجهل الذي يغذي الرغبة بالقمع والرفض.

تجيد الأنظمة اللعب على وتر الخوف والتخويف الذي تستخدمه كقناع يغطي خوفها على مركزها وعدم اطمئنانها على قدرتها على السيطرة على شعوبها كما تحب، فتقوم مثلا باعتقال ومحاكمة شاب يافع لمجرد أنه قام بإحراق صورة للحاكم، فلا نجد إلا القليل ممن يعارضونها بصراحة لأنها أجادت ترويج فكرة أن في انتقاد الحاكم انتقاص من مكانته، وأن بقاء الوطن وأمنه واستقراره مرتبط بمكانة الحاكم وقوته وبقاءه.

وترى الأنظمة تستحضر عفريت اختفاء الأمن والأمان بطرق أعم وأقسى كالحالة التي تعيشها مصر منذ ثورتها، فالقوى الحاكمة هناك تربط بين الحالة الأمنية المتردية واستمرار الحركات الثورية المطالبة بالحفاظ على مكاسب الثورة ومحاسبة معيقيها والمضي قدماً في تحقيق مطالبها، من دون أن تقدم أي شرح مقنع لتقاعس القوى الأمنية عن أداء واجبها طوال سنة كاملة وأكثر – والذي وصل في الكثير من الأحوال إلى حد تجاهل رقباء السير في الشوارع لتنظيم حركة مرور المركبات، وعلاقة ذلك بحركة التظاهرات والاعتصامات التي مهما تضاخمت حجماً إلا أنها أثبتت في سوادها الأعظم نزعتها السلمية ورفضها للعنف. لكن الخوف من فكرة اختفاء الأمن كان كفيلا بلجم قدرة قطاعات واسعة من الشعب على التحقق من ادعاءات القوى الحاكمة الواهية، فتعالت الأصوات المطالبة بالانصياع لإرادة السلطة والإحجام عن التظاهر والتعبير بحرية.

والأنظمة ليست وحيدة في محاولاتها قمع حرية التعبير وحتى حرية الفكر، فتشاركها في ذلك بعض التيارات الفكرية والسياسية المؤدلجة التي تتسم بالتطرف، ففي الأردن مثلاً من يطالبون بدعم النظام السوري الذي يتمادى الى أبعد الحدود في قمع دعاة الحرية والتحرر من شعبه بحجة أن هذا النظام يدعم المقاومة ضد الكيان الصهيوني ويدعي مقاومة المد الإمبريالي.

هناك كذلك حركات ذات طابع ديني ترفض الخوض مع الآراء التي تخالفها فكرياً سواء من داخلها أو خارجها، وتجدر الإشارة هنا الى الخلل الواضح في معادلة التدين ورفض الآخر، وهذا الخلل يصب في الأدلة التي تؤكد أن الجهل والخوف هو الدافع لقمع حرية التعبير ورفض الآخر ورأيه. فالأصل في التدين هو الاقتناع المبني على الإيمان بأن ما جاء في النص الشرعي هو الحق المنزل من السماء، ومثل هذا الإيمان جدير ببناء ثقة المؤمن بمعتقده بشكل يتيح له أن لا يشعر بالتهديد إذا وجه برأى يخالفه مهما كانت طريقة التعبير عن هذا الرأي طالما أنها لم تحاول النيل من قدرته هو على التعبير عن نفسه وعن معتقده. ربما كان من الحري هنا تعميق النظر بتعريف الإيمان حتى يتم تفريقه عن التقليد الأعمى الذي يعتبر ضرباً من ضروب الجهل الذي يترك صاحبه بعيدا عن الطمأنينة المرجوة من الإيمان السليم.

ربما يعيدنا البحث في الأسباب والمسببات التي خلفت في مجتمعاتنا مناخا مواتٍ لتفشي ظاهرة قمع حرية التعبير ورفض الرأي الآخر الى قرون سلفت من الاستبداد والاستعمار والجهل والتجهيل، حتى أن هذه الظاهرة أمست جزءا من واقع حياتنا اليومية تنتشر في داخل عائلاتنا وتصل الى مستوى الفرد الذي يمنع نفسه بنفسه من التعبير عن رأيه إذا رأى أن في هذا الرأي ما يخالف التوجه العام لمجتمعه أو دائرته المجتمعية الخاصة، سواء كان هذا الرأي ذا طابع سياسي أو اجتماعي. وإذا علمنا أن حرية الإنسان بالتعبير عن نفسه وتقبله واحترامه للآراء التي تخالفه أثبتت أنها من أهم العوامل التي تدفع وتسرع عجلة التطور الفكري والحضاري فقد نجد أنفسنا أمام معضلة تبدو بالغة التعقيد.

برأيي أن الحل أبسط مما نتوقع، فنحن في زمن أصبح فيه التواصل والاتصال أيسر وأكثر انتشاراً من أي وقت مضى، وقد تبدو مواجهة آفة الجهل والخوف المتفشي غاية عصية على الإدراك، و لكن الحقيقة أننا ولبلوغ غايتنا لسنا بحاجة الى بناء مجتمع كامل من الفلاسفة والمفكرين، بل يكفينا في هذه المرحلة أن نعيد للفرد إحساسه بقيمته وكرامته، و يكون ذلك من خلال تعزيز إدراكه بأن له حقوقاً ثابتة لا ينازعه فيها أحد، وأن عليه واجبات في مقابل هذه الحقوق لا ينوب عنه في تنفيذها أحد. و إذا دار في خلدك عزيزي القارىء ذلك السؤال الذي يصعّب دائماً من المضي قدماً باتجاه الخطوة الأولى: من أين نبدأ؟ فجوابه بديهي وسهل: ابدأ بنفسك.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية